الإدريسي نزهة-المشتاق الجغرافيا-التاريخية الموارد-المائية

دور الماء في العمران والحضارة عبر نزهة المشتاق للإدريسي

12 February، 2025
10 دقائق للقراءة
الجغرافيا-التاريخية
دور الماء في العمران والحضارة عبر نزهة المشتاق للإدريسي

تحليل معمق لأهمية الموارد المائية في تشييد المدن وتطور العمران الإسلامي من خلال كتاب نزهة المشتاق للشريف الإدريسي، مع استقراء للعلاقة الجدلية بين توفر المياه والتشكيلات العمرانية في الفضاءات الحضرية والريفية بالعالم الإسلامي

حول هذه الدراسة

هذا المقال مستل من دراسة أكاديمية قام بها الباحثان عزيز فردان وعبد الله أمجهادي في إطار ماستر "الماء في تاريخ المغرب" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، تحت إشراف الدكتورة عائشة الناجم كنتوري العروسي. تبحث الدراسة في أهمية الموارد المائية ودورها في تشكيل العمران الإسلامي من خلال كتاب نزهة المشتاق للشريف الإدريسي.

تقديم: الماء كركيزة للعمران البشري

يشغل الماء مكانة جوهرية في نشأة المجتمعات البشرية وتطورها على مر العصور، إذ لا يمكن أن نتخيل قيام أي نوع من أنماط العمران أو المراكز الحضارية دون هذا العنصر المحوري. ومن خلال السياق التاريخي، نجد أن المجتمعات القديمة والوسيطة قد أدركت بوضوح الرابطة المتينة بين توفر الموارد المائية واستدامة التجمّعات السكانية، الأمر الذي جعل الماء لا يقتصر دوره على تلبية الاحتياجات اليومية فحسب، بل امتد ليصبح أساساً للتخطيط الحضري والإنتاج الزراعي والتطور الاقتصادي.

المياه في عصر الإدريسي

كان الماء يشكل عنصراً محورياً في التخطيط الحضري والبنية الاجتماعية بالمغرب الإسلامي

أنقر على أي رقم للمزيد من التفاصيل

0 إشارة للماء في نزهة المشتاق
0 مدينة مرتبطة بالأنهار
0 منشأة مائية موثقة

وعندما نعود إلى تراثنا العربي الإسلامي، تتبيّن لنا عناية المؤرخين والجغرافيين بوصفهم الدقيق للموارد المائية وتدوينهم لملاحظات ميدانية جمّة. وفي هذا الصدد، يبرز كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي بصورة جلية، كونه أحد أفضل النصوص الجغرافية الوسيطة التي تناولت موضوع الماء من حيث مصادره وانعكاساته المباشرة على البنى الاقتصادية والاجتماعية.

وليس هذا الاهتمام بالماء اعتباطيًّا؛ بل يأتي كنتيجة منطقية لتجوال الإدريسي وأسفاره المتعددة عبر أقاليم مختلفة، ما مكّنه من فهم تنوّع أشكال الارتباط بين الإنسان والماء، وبالتالي رصد تأثيره في رسم خرائط العمران. إن أهميّة هذا المصدر تزداد كلّما تعمّق الباحث في قراءته، إذ يكتشف مدى إدراك الإدريسي للمفاهيم البيئية والاقتصادية والإنسانية التي تقوم عليها أي حضارة حية.

كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق

خريطة الإدريسي في نزهة المشتاق

يُعد هذا الكتاب من أهم المصادر الجغرافية في التراث العربي الإسلامي، وقد أُلف بتكليف من الملك روجار ملك صقلية في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). اشتهر الكتاب بخرائطه الدقيقة وبوصفه الشامل للعالم المعروف آنذاك.

جغرافيا خرائط موارد مائية عمران

مقدمة كتاب نزهة المشتاق

اعتمد الإدريسي تقسيم العالم إلى سبعة أقاليم، واستهدف من وراء هذا التقسيم تقديم رؤية منهجية تسمح بتغطية شاملة للمواقع والمدن والظواهر الطبيعية والبشرية، بما في ذلك الموارد المائية. ويبرز جليًّا من خلال نَسْق السرد والبيانات أن الإدريسي أولى اهتمامًا بالغًا بمسألة توزيع المياه ودرجات توفرها، وذلك حرصًا منه على استجلاء دور الماء بوصفه عاملًا حاسمًا في قيام العديد من المشاريع العمرانية والتجارية.

ومن اللافت في هذا المؤلف غنى المعلومات الجغرافية المتعلقة بمختلف المناطق، إضافةً إلى إشاراته المتكررة لوجود أنهار أو عيون أو آبار في كل موقع يتناوله بالدراسة، كما يصف كيف يؤثّر هذا الوجود المائي على ازدهار الأنشطة الزراعية والتجارية، بل وأحيانًا الأسطورية إذا ما تحدث عن وفرة المياه وما ترتبط به من معتقدات محلية في بعض الأقاليم.

"وسلطانه الهادي إلى سبيل عزه تفضلاً وإرشاداً والدال على ارتباط النعم به قولاً واعتقاداً..."

— الشريف الإدريسي

يورد الإدريسي في مقدمة كتابه كلامًا يشير فيه إلى عظمة الخالق وما بثّ في الكون من عجائب، مبرزًا الانسجام الدقيق بين الأرض والماء، وكيف أنهما يشكلان وحدةً متجانسة في إطار صورة كروية تشهد بديع صنع الله. هذه الافتتاحية ذات طابع ديني وفلسفي في آنٍ معًا، إذ يظهر فيها مدى وعي الإدريسي بترابط العالم المائي واليابسة، ويُبرز موقفه من مبدأ شمولية الكون وتناغمه باعتباره منصة لتجديد الإدراك العقلي والروحي.

التعريف بالشريف الإدريسي

الإدريسي في سطور

  • الاسم الكامل: محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحمودي الحسني
  • ولادته: سبتة سنة 493 هـ (حوالي 1100 م)
  • وفاته: حوالي 560 هـ (1165 م)
  • نسبه: ينتمي إلى بني حمود الأشراف الأدارسة
  • أشهر أعماله: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، المعروف أيضاً بـ "كتاب روجار" أو "الكتاب الروجري"
  • إنجازاته: تصميم خريطة العالم الشهيرة المعروفة باسم "خريطة الإدريسي" أو "اللوح الروجري"

نشأته وتكوينه العلمي

ينتمي الشريف الإدريسي إلى أسرة تنتسب إلى بني حمود الأشراف الأدارسة، وقد ازدهر نفوذ هذه الأسرة خلال مرحلة ملوك الطوائف في الأندلس، ما أضفى عليها أهمية دينية وسياسية في كلّ من المغرب والأندلس. وقد ترك هذا الانتماء العائلي أثرًا في تكوين الإدريسي الشخصي، لا سيما في نزعته الثقافية الجامعة واهتمامه بدراسة مختلف المجالات من فقه وعلم كلام وجغرافيا وفلك ونبات وطب.

وُلد الإدريسي في مدينة سبتة سنة 493 هـ (نحو 1100 م)، وهي مدينة اشتهرت بكونها معبرًا تاريخيًا بين ضفتي المتوسط. تلقّى فيها علومه الأولية على أيدي مشايخ وأساتذة بارعين، حيث احتكّ منذ صغره بمزيجٍ من المؤثرات العلمية والأدبية. ولم يلبث أن انطلق في أسفار طويلة تضمّنت زيارات لعدد من المدن في أرجاء العالم الإسلامي والأوروبي، متتبعًا شواهد الحضارات ومنجزاتها، ومكتسبًا في كلّ محطة معارف متنوعة حول تضاريس البلدان ومواردها.

أعماله العلمية

يمكن القول إن الشق الأبرز في شخصيته العلمية كان في ميدان الجغرافيا، إذ جمع معلومات جمّة ليضع خرائط دقيقة بصورةٍ أذهلت من عاصره من العلماء والملوك. وقد تميّز بانفتاحه على التراث الإغريقي والإسلامي، فضلاً عن براعته في إجراء مشاهدات عينيّة تعكس نزعةً علميةً تجريبية لا تتوافر كثيرًا في مؤلفات عصره. أما في مجال الطب والنبات، فقد خلّف الإدريسي تراثًا ملحوظًا، إذ تطرق إلى دراسة النباتات الطبية ودورها في حفظ الصحة العامّة.

بعد سنواتٍ من التنقّل وعمل دؤوب في كنف البلاطات الحاكمة، يُرجّح أن الإدريسي وافته المنية في مدينة سبتة نحو سنة 560 هـ (1165 م). وتأتي هذه الوفاة عقب فتراتٍ من الاضطراب السياسي في صقلية، حيث كانت تربطه بالملك روجار علاقة وطيدة أتاحت له إنجاز كتابه الشهير وخريطته الشهيرة أيضًا. يُعتقد أن عودته إلى مسقط رأسه (سبتة) في أواخر حياته جاءت تلبيةً لرغبته في الانعزال والتأمّل بعيدًا عن الصراعات السياسية التي كان يشهدها محيطه، ليختم بذلك رحلة علمية حافلة بالتجديد في مجال الجغرافيا ورسم الخرائط.

مصطلحات الماء في كتاب نزهة المشتاق

يتميز نزهة المشتاق بثروة لغوية هائلة حين يتطرق لمختلف أشكال المياه؛ فهو لا يكتفي بذكر البحار والأنهار، بل يسلط الضوء على الآبار والعيون والجداول والقنوات والوديان وما يجاورها من تكوينات طبيعية وبشرية على حدٍّ سواء. وفي العمق، يعكس هذا التنوع مصداقية ميدانية، إذ إن الإدريسي لم يكن مجرد ناقل عن كتب السابقين فحسب، وإنما كان شاهدًا عيانًا على العديد من الظواهر الجغرافية، ما أضفى ثراءً ووثوقية على سردياته.

معجم مصطلحات الماء عند الإدريسي

نهر ٣٢ إشارة
وادي ٢١ إشارة
جدول ١٢ إشارة
عين ١٨ إشارة
ينبوع ٧ إشارات
بئر ١٤ إشارة
جب ٣ إشارات
قناة ٩ إشارات
ساقية ٦ إشارات

الأنهار

يصف الإدريسي بدقة الأنهار ومجاريها وروافدها ومصباتها، ويربطها بالسكان والمدن والتجارة

العيون

يهتم بتسجيل العيون كنقاط استقرار بشري مهمة، ويصف مذاقها ودرجة حرارتها وغزارتها

الآبار

يذكر الآبار وأهميتها في المناطق الجافة، ويشير إلى أعماقها وطرق حفرها وكيفية استخراج الماء منها

القنوات والسواقي

يشرح كيفية جلب الماء إلى المدن والمزارع، ويبين هندسة القنوات والمنشآت المائية

وتبرز في النصوص النسبة العالية التي يتكرر فيها لفظ "الماء" بمختلف صيغه، ويدل ذلك على مدى ولع الإدريسي بهذا العنصر الحيوي، وعلى القناعة السائدة آنذاك بأن الماء يبقى شرطًا أساسيًا لكل مولود حضاري، سواء أكان مدينة ناشئة أو مجتمعًا زراعيًا تقليديًا.

المصطلحات الخاصة بالمجال المغربي

عندما يتكلم الإدريسي في الكتاب عن المغرب، يظهر جليًّا أنه يعي جيدًا مدى الرّفاه النسبي الذي امتازت به مناطق عدّة هناك بفضل تنوّع مصادر المياه. ففي حين يشير إلى الأنهار الكبرى كسبو وأم الربيع، يسلّط الضوء أيضًا على العيون والبحيرات الصناعية والبنى المائية مثل السواقي والمنشآت المخصّصة للري.

أنظمة الري التقليدية في المغرب

منظومة ري تقليدية بالمغرب تعكس استغلال الموارد المائية كما وصفها الإدريسي

ويضع الإدريسي القارئ أمام صورة شاملة تساعده في فهم التحولات الاقتصادية والعمرانية، كما يُبرز أن وفرة المياه قد ساهمت في تعدّد الأنماط الزراعية وازدهار العديد من المدن العتيقة التي لازلنا نشهد بعضها حتى يومنا هذا.

ومن ثمّ فإن المغرب الأقصى وفق منظور الإدريسي يبرز كخزّان مائي طبيعي، يمتزج فيه عطاء الطبيعة مع اجتهاد الإنسان الذي أتقن تقنيات تطوير المنشآت المائية عبر العصور، متدرجًا من السواقي البسيطة إلى القنوات المعقّدة وأنظمة الري التي سهّلت زراعة مساحات شاسعة. وتتعدى أهمية هذه النظم المائية مجرد إمداد الناس بالماء، لتندرج ضمن عوامل نهضة المدن التي أصبحت مفاصل حياة اجتماعية واقتصادية.

أهم مصادر الماء في المغرب وفق الإدريسي

الأنهار

يعدّ وادي أم الربيع ووادي ايناون ونهر سبو من أبرز الأمثلة التي ركّز الإدريسي عليها، حيث يشير إلى خصائص كلّ نهر منها، وإلى مدى إمكانية استغلاله في الملاحة النهريّة أو الريّ.

وتُبرز نصوصه كيف أن ضفاف هذه الأنهار كانت مكانًا مفضّلًا لقيام أنشطة زراعية متقدمة.

العيون

لم تكن أهمية العيون في مدن المغرب مجرد التزود بمياه الشرب، بل كانت غالبًا نواة لقيام تجمعات حضرية بارزة، كما حدث في فاس ومراكش.

وبدءًا من هذه العيون، انتشرت حدائق واسعة وبساتين مثمرة، تلبّي حاجات الناس وتنمّي الاقتصاد المحلي.

الآبار

تتأكد الضرورة الاستراتيجية للآبار في المناطق التي لا تحظى بقدر وافر من الأمطار أو الأنهار، خصوصًا في محيط مدينة مراكش أو المناطق الصحراوية القريبة منها.

وقد رسّخ سكّان هذه المناطق تقاليد حفر الآبار بطرق هندسية تضمن عمقًا مناسبًا للمياه الجوفية وتُقلل من معدلات النضوب.

المنشآت المائية في العالم الإسلامي عبر نزهة المشتاق

تدفق المياه في المنشآت الإسلامية

المسجد الحمام السقاية عين الماء
حرك مؤشر الفأرة فوق العناصر لمعرفة المزيد من المعلومات

توضح الرسوم المتحركة أعلاه كيفية تدفق المياه في المنشآت الإسلامية التقليدية، بدءًا من مصدر المياه الرئيسي وصولًا إلى مختلف المرافق العامة والدينية. استخدم المعماريون المسلمون مبادئ الفيزياء البسيطة مثل الجاذبية الأرضية لتوزيع المياه عبر المدينة، حيث يتم توجيه الماء من المصدر الرئيسي إلى المرافق المختلفة عبر قنوات مدروسة التصميم.

المنشآت المدنية: الأرحية المائية

لا تقتصر الإشارة إلى الأرحية المائية في نصوص الإدريسي على كونها وسائل لطحن الحبوب، بل تتعدى ذلك لتشكّل شاهدًا على تقدّم المستوى التقني الذي بلغه المجتمع المغربي في توظيف الماء. فالأرحية تتحوّل في هذه السياقات إلى مركز جذب اقتصادي، إذ تضمّ حولها ورشات للحرف اليدوية وأسواق لتبادل السلع، فتتلاقى الوظيفة الإنتاجية مع الدور الاجتماعي في ربط السكان بعضهم ببعض.

وقد تكررت في الكتاب إشارات إلى مدن مثل فاس ومكناس وسجلماسة، حيث ازدهرت الأرحاء المائية على ضفاف الأودية أو بمناطق قريبة من العيون، ما يسهل تدفّق المياه ويحافظ على استمرارية دوران الأرحية طوال العام تقريبًا. ويبيّن الإدريسي كيف أن العناية الفائقة بأجزاء الأرحية وصيانتها سمحت بإطالة عمرها وبالإفادة المثلى من تيارات المياه.

دور الأرحية المائية في الحياة الاقتصادية

١
مركز إنتاجي

استخدمت الأرحية لطحن الحبوب وإنتاج الدقيق اللازم لصناعة الخبز والمعجنات، مما جعلها محوراً أساسياً في سلسلة الإنتاج الغذائي

٢
مركز اجتماعي

شكلت الأرحية نقطة تجمع للسكان، حيث يتم تبادل الأخبار والمعلومات، مما عزز الترابط المجتمعي

٣
مركز تجاري

تطورت حول الأرحية أسواق لبيع المنتجات الزراعية والحرفية، مما ساهم في تنشيط الحركة التجارية المحلية

٤
نواة للتجمعات السكنية

ساهمت في تشكيل وتوسع التجمعات السكنية، حيث تمركزت المساكن حول مواقع الأرحية الاستراتيجية بالقرب من مصادر المياه

المنشآت الدينية والعسكرية

المياه في المساجد الإسلامية

المساجد

يربط الإدريسي بين حضور الماء في المساجد من حيث عمليات الطهارة اللازمة قبل الصلاة ومن حوضيات الوضوء، وبين البعد الجمالي الذي تجلى في بناء النوافير واستعمال الأقواس والأروقة الأنيقة للتزيين.

هذه المنشآت تدل على وعيٍ معماري يجمع بين الوظيفة الدينية والجمالية، إذ تصبح المياه عنصرًا أساسيًا في راحة المصلين وتعميق تأملهم الروحي.

المياه في القلاع والحصون الإسلامية

القلاع والحصون

في النصوص الخاصة بالقلاع والحصون، يشير الإدريسي إلى أن توافر منابع أو خزانات مياه ضمن نطاق الحصن كان شرطًا مهمًا لأغراض الأمن والدفاع.

فحين تشتد الحروب أو تحلّ أوقات الحصار، يكون امتلاك مصدر مائي أو خزانات ضخمة عاملًا حاسمًا في صمود المدافعين واستمرار حياة السكان على نحو أفضل، ما يجعل التخطيط المائي في أنماط البناء العسكري عنصرًا لا غنى عنه.

نماذج من وصف الإدريسي للمنشآت المائية

وصف مدينة فاس ومياهها

"ومدينة فاس مدينة كبيرة وهي على جنوب غار مدرو بينها وبين البحر المغرب ثلاثة أيام، وهي مدينة ليس في المغرب كله أكثر مياها منها، ولها نهر شطرها شطرين قصبتين [...] وفي كل قصبة أسواق، وهي كثيرة الأرحاء نحو ثلاثمائة رحى وهي عامرة آهلة والخصب بها دائم، وأهلها مياسير أغنياء..."

وصف مدينة مراكش وعيونها

"ومدينة مراكش مدينة حديثة البناء [...] وبها عيون جارية وماؤها عذب، وبها قصر السلطان، ولها جنان رائعة وبساتين ملتفة كثيرة التصرف، ومنها تجلب الفواكه إلى البلاد المجاورة لها، وهي كثيرة الخيرات، وهي في بسيط من الأرض..."

وصف نهر سبو ودوره الاقتصادي

"ونهر سبو، وهو نهر كبير تصعد فيه السفن الصغار المجدفة من البحر حتى قرب مدينة فاس، ومصبه في البحر المالح بالبطحاء، وعليه مدينة المهدية، وهي مدينة صغيرة على البحر بناها المهدي [...] ويستخرج من هذا النهر صيد كثير طيب يحمل إلى مدينة فاس وغيرها..."

وصف القلعة وتأمين مياهها

"وقلعة بني حماد [...] وقلعة بني حماد تامة المرافق محكمة البناء، بها من الصهاريج والمصانع ما يكفي لجيش كبير زماناً طويلاً، وبها أيضاً عيون جارية وآبار كثيرة، وكذلك الأرحية الدائرة على الماء..."

خاتمة

إن استقراء موضوع الماء من خلال المصادر الجغرافية، وبخاصة كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي، يفتح لنا أبوابًا جديدة لدراسة التاريخ والعمران والأبعاد الحضارية بصفة أشمل وأعمق. فمن خلال أعمال الإدريسي، نكتشف كيف يؤثر توافر الموارد المائية أو ندرتها في رسم خريطة الاستقرار البشري ونمو الأنشطة الاقتصادية والزراعية، بل وامتدادها إلى أشكال الإبداع المعماري والتقني.

إن هذا الكتاب لا يقتصر على كونه سجلًّا للمدن والأنهار والعيون فحسب، بل هو شهادة حيّة على وعي حضارة بأكملها بأهمية العنصر المائي ودوره في ازدهارها واستمراريتها.

"في كل قطرة ماء، ثمة حكاية لعمران، وفي كل نبع، تتجلى فرصة لاستمرارية حضارية."

وبالنظر إلى شمولية طرح الإدريسي واحتفائه بالماء في مختلف الأقاليم والمناطق، يبدو جليًّا أن الماء قد لعب دورًا جوهريًا في التأسيس لمدن قوية وازدهار مجتمعات نشطة على المستويات الاقتصادية والثقافية والفكرية. وإذا كان الماء يمثل بالنسبة إلينا اليوم تحديًا عالميًا في ظل التحولات المناخية وضغوط التنمية، فإن جهود المؤرخين والجغرافيين في العصور الوسيطة تزودنا برؤى تاريخية عميقة حول كيفية التعامل مع هذا المورد وجعل الاستدامة محورها المركزي.

دروس من الماضي للتخطيط العمراني المعاصر

تكشف لنا دراسة الإدريسي أهمية التكامل بين التخطيط العمراني وإدارة الموارد المائية، وهي رؤية لازالت تحتفظ بأهميتها في عصرنا الحالي. فالمدن التي وصفها الإدريسي بالازدهار والعمران هي تلك التي أحسنت توظيف مواردها المائية وطوّرت منظومات متكاملة لإدارتها.

يمكن للمخططين العمرانيين المعاصرين أن يستلهموا من هذه التجارب التاريخية مبادئ هامة، خاصة فيما يتعلق بتصميم المدن المستدامة التي تراعي خصوصية البيئة المحلية وتحترم المنظومة البيئية الشاملة.

التكامل بين الوظيفي والجمالي

برع المعماريون المسلمون في تحويل المنشآت المائية العملية إلى تحف فنية، تجمع بين الفائدة والجمال، وهو نهج يمكن استلهامه في التصاميم المعاصرة

الاستدامة والتكيف المحلي

تكيفت المنشآت المائية التي وصفها الإدريسي مع البيئة المحلية واستفادت من الموارد المتاحة بطرق مستدامة، وهو ما يتوافق مع توجهات العمارة الخضراء المعاصرة

البعد الاجتماعي للموارد المائية

لم تكن المنشآت المائية مجرد مرافق خدمية، بل كانت فضاءات اجتماعية تعزز التواصل المجتمعي، وهو بعد يجب مراعاته في التخطيط الحضري المعاصر

مقارنة بين النظم المائية التاريخية والمعاصرة

النظام المائي التقليدي (القرن الـ12)

الأنظمة المائية كما وصفها الإدريسي، معتمدة على التدفق الطبيعي والجاذبية، ومتكاملة مع النسيج العمراني التقليدي

النظام المائي المعاصر

الأنظمة المائية الحديثة، مع تقنيات الضخ والمعالجة المتطورة، لكنها تفتقد للبعد الجمالي والتكامل العمراني

حرك الشريط من اليمين إلى اليسار للمقارنة

تظهر المقارنة أعلاه الفرق بين النظم المائية التقليدية التي وصفها الإدريسي في القرن الثاني عشر الميلادي، والنظم المائية المعاصرة. يلاحظ التطور التقني الكبير، لكن مع فقدان بعض الخصائص الجمالية والتكامل مع البيئة الطبيعية الذي ميز النظم التقليدية. يمكن للمهندسين المعاصرين الاستفادة من دراسة هذه النظم التقليدية لإيجاد حلول مستدامة تجمع بين الكفاءة التقنية والجمالية المعمارية.

شكر وتقدير

تم إعداد هذه الدراسة في إطار ماستر "الماء في تاريخ المغرب" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، تحت إشراف الدكتورة عائشة الناجم كنتوري العروسي، ضمن مادة "العمارة المائية بالمغرب الوسيط". نتقدم بالشكر الجزيل للأساتذة والباحثين الذين قدموا مساعدة قيمة خلال مراحل إعداد هذا البحث.

إنجاز: عزيز فردان وعبد الله أمجهادي
ماستر: الماء في تاريخ المغرب
"كلية الاداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض"
مادة: العمارة المائية بالمغرب الوسيط
تحت إشراف الدكتورة: عائشة الناجم كنتوري العروسي

المراجع والمصادر

  • الإدريسي، الشريف. "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق". تحقيق: هنري بيريس، معهد مولاي الحسن، الرباط، 1989.
  • الناجم، عائشة. "العمارة المائية بالمغرب الوسيط: دراسة تاريخية وأثرية". منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش، 2018.
  • الحموي، ياقوت. "معجم البلدان". دار صادر، بيروت، 1995.
  • بن سعيد، أحمد. "العمارة الإسلامية في المغرب: الماء وأثره في التشكيل العمراني". دار الأمان، الرباط، 2010.
  • لكريني، إدريس. "الجغرافيا الحضرية عند العرب: قراءة في إسهامات الإدريسي". المجلة المغربية للدراسات التاريخية، العدد 14، 2015.
  • الركيك، هشام. "المنشآت المائية ودورها في التنمية الاقتصادية بالمغرب الوسيط". أطروحة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، 2012.
  • فردان، عزيز وأمجهادي، عبد الله. "الموارد المائية في نزهة المشتاق: دراسة تحليلية". بحث ماستر غير منشور، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش، 2024.
د. عزيز فردان

د. عزيز فردان

باحث في تاريخ النظم المائية والعمران بالمغرب الوسيط، حاصل على دكتوراه في التاريخ والحضارة الإسلامية من جامعة القاضي عياض.

التعليقات (3)

أضف تعليقك

أحمد محمد
أحمد محمد
20 مارس، 2025

بحث قيم جداً عن المنهج الخلدوني، استفدت منه في دراستي عن تاريخ النظم المائية. أود أن أضيف أن هناك تشابه كبير بين نظريات ابن خلدون ونظريات علم الاجتماع الحديثة في تفسير العلاقة بين الموارد الطبيعية والتنظيم الاجتماعي.

فاطمة العلوي
فاطمة العلوي
15 مارس، 2025

هل يمكن أن توضح أكثر كيف تم تطبيق المنهج الخلدوني في دراستكم للنظم المائية في المغرب الوسيط؟ لدي اهتمام خاص بهذا الموضوع وأعمل على بحث مشابه.

عبد الرحمن الناصري
عبد الرحمن الناصري
10 مارس، 2025

مقال رائع وثري بالمعلومات. أعتقد أن فهم منهجية ابن خلدون يساعدنا على إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بنظرة نقدية تحليلية. سؤالي: هل تعتقد أن مفهوم العصبية عند ابن خلدون يمكن أن يفسر ظهور بعض المراكز العمرانية حول الموارد المائية في المغرب الوسيط؟

د. عزيز فردان
د. عزيز فردان الكاتب
12 مارس، 2025

شكراً على هذا السؤال المهم. نعم، يمكن توظيف مفهوم العصبية الخلدوني في تفسير نشأة المراكز العمرانية حول مصادر المياه، خاصة في المناطق الصحراوية والواحات، حيث شكلت القبائل والعشائر تحالفات وعصبيات لإدارة الموارد المائية المحدودة. سأتناول هذا الموضوع بشكل مفصل في مقال قادم.

شارك المقال

إذا أعجبك المقال، شاركه مع زملائك وأصدقائك المهتمين بالتاريخ والدراسات الإسلامية

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والدراسات مباشرة إلى بريدك الإلكتروني

قد يهمك أيضًا

تقنيات الري التقليدية
النظم المائية

تقنيات الري التقليدية وتأثيرها في التنمية الزراعية

25 فبراير، 2025 | 8 دقائق للقراءة

استكشاف لتقنيات الري التقليدية في المغرب وكيف ساهمت في بناء نموذج زراعي مستدام يمكن الاستفادة منه في مواجهة التحديات المناخية المعاصرة.

قراءة المزيد
العمارة الإسلامية
العمران الإسلامي

العمارة الإسلامية ودور الماء في تشكيل فضاءاتها

15 مارس، 2025 | 12 دقيقة للقراءة

دراسة تحليلية لدور الماء في التصميم المعماري للمدن الإسلامية، مع التركيز على نماذج من فاس ومراكش والرباط كأمثلة للعمران المائي المغربي.

قراءة المزيد
الفقه المائي
الدراسات الدينية

الفقه المائي وأثره في تنظيم الحياة الاجتماعية

5 مارس، 2025 | 10 دقائق للقراءة

بحث في أحكام المياه في الفقه الإسلامي وكيفية تأثيرها على تنظيم المجتمعات المغربية من خلال نظام حقوق الماء والسقي وتوزيع الأدوار.

قراءة المزيد

تواصل معنا

هل لديك أسئلة أو استفسارات حول مواضيع المقالات؟ هل ترغب في المشاركة في أبحاثنا؟ نحن هنا للإجابة على جميع استفساراتك