تحليل سوسيو-تاريخي لآليات التكيف التي طورتها الساكنة المغربية في منطقة إحاحان للتعامل مع التقلبات والأزمات المناخية، مع دراسة ميدانية للممارسات المجتمعية المستدامة في إدارة الموارد المائية والزراعية، واستقراء للدروس المستفادة في مواجهة تغيرات المناخ المعاصرة
حول هذه الدراسة
هذا المقال مستل من دراسة أكاديمية قام بها الباحثان عزيز فردان وعبد الله أمجهادي في إطار ماستر "الماء في تاريخ المغرب" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، تحت إشراف الدكتور هشام الركيك. تمت مراجعة وتوسيع المادة العلمية بإضافة نتائج الدراسات الميدانية الحديثة.
مقدمة: علم المناخ التاريخي كمدخل لفهم التكيف المجتمعي
يمثل علم المناخ التاريخي أحد الحقول المعرفية الحديثة التي تقاطع فيها العلوم الطبيعية مع العلوم الإنسانية، حيث يسعى إلى إعادة بناء ظروف المناخ السائدة في الفترات التاريخية السابقة، ودراسة تأثيراتها على المجتمعات البشرية. ورغم التحديات المنهجية المرتبطة بتحديد ماهية هذا العلم، سواء من حيث التعريف أو الإطار الزمني، فإنه أضحى يحتل موقعاً محورياً في التحليل العلمي للظواهر التاريخية، مفتتحاً آفاقاً جديدة للباحثين في مختلف الحقول العلمية.
ينحدر مصطلح "علم المناخ" (Climatologie) لغوياً من أصول يونانية حيث "Klima" تعني "مائل"، و"Logie" تشير إلى "علم" أو "دراسة". ويتمحور اهتمام هذا العلم حول دراسة الأحوال الجوية المميزة لمنطقة جغرافية معينة على مدى فترات زمنية طويلة، بهدف فهم التغيرات المناخية التاريخية والحالية واستشراف مساراتها المستقبلية.
وعلى الرغم من كون الاهتمام العلمي المنهجي بالمناخ حديث العهد نسبياً، فإن الإنسان قد أولى اهتماماً كبيراً بالظواهر الجوية منذ فجر التاريخ، نظراً لتأثيرها المباشر على حياته وأنشطته الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا السياق، يأتي دور المؤرخ لاستكشاف تأثير المناخ على التشكلات المجتمعية، وخاصة فيما يتعلق بالموارد المائية التي تمثل عصب الحياة في المناطق ذات المناخ الجاف وشبه الجاف.
المناخ في التعريف العلمي
المناخ هو "مجموع حالات الجو فوق مكان معين في تسلسلها الزمني الاعتيادي" - وبعبارة أخرى، هو مجموع الظواهر الميتيورولوجية التي تميز الحالة المتوسطة للغلاف الجوي فوق منطقة جغرافية محددة على مدى فترة زمنية طويلة.
"التكيف مع المناخ ليس ابتكاراً حديثاً، بل هو ممارسة إنسانية متجذرة في أعماق التاريخ، طورتها المجتمعات التقليدية عبر قرون من التفاعل مع بيئاتها المحلية، وورثتها عبر أجيال من التجربة المعاشة والذاكرة الجماعية."
تنطلق منهجيتنا في هذه الدراسة من مقاربة متعددة التخصصات، تجمع بين أدوات التحليل التاريخي والأنثروبولوجي والجغرافي، في محاولة لاستقراء آليات التكيف التي طورتها ساكنة منطقة حاحا في مواجهة التحديات المناخية. نسعى من خلال هذا البحث إلى توثيق التراث الطبيعي والثقافي للمنطقة، الذي يشكل هويتها الفريدة، خاصة في ظل التغيرات المناخية المتسارعة التي يشهدها العالم المعاصر.
أهداف الدراسة وإشكالياتها
توثيق التراث الإيكولوجي
استبصار التراث الطبيعي والثقافي للمنطقة الذي يشكل هويتها، خاصة في ظل التغيرات البيئية المتسارعة التي تشهدها المنطقة وتهدد استمرارية هذا التراث الفريد.
تحليل آليات التكيف
دراسة الاستراتيجيات التي طورتها المجتمعات المحلية للتكيف مع ندرة الموارد المائية والتقلبات المناخية، وفهم العلاقة التفاعلية بين الإنسان والبيئة في سياق محلي محدد.
استقراء الدروس المستقبلية
استخلاص الدروس والعبر من التجارب التاريخية للمجتمعات التقليدية في مواجهة التحديات المناخية، واستشراف إمكانية توظيفها في مواجهة تحديات التغير المناخي المعاصر.
تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الإشكالية المحورية:
- ١ ما هي الخصائص الجغرافية والمناخية التي تميز منطقة حاحا، وكيف أثرت على التشكلات الاجتماعية والاقتصادية للساكنة المحلية؟
- ٢ ما هي الاستراتيجيات التي طورتها ساكنة المنطقة للتكيف مع الندرة المائية والتقلبات المناخية عبر فترات تاريخية مختلفة؟
- ٣ كيف أسهمت التقنيات والمعارف التقليدية في إدارة الموارد المائية وتخفيف آثار الجفاف والأزمات المناخية الدورية؟
- ٤ ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجارب التاريخية وتوظيفها في مواجهة تحديات التغير المناخي المعاصر؟
تنبع أهمية هذا البحث من كونه يوثق ويحلل استراتيجيات التكيف المحلية التي طورتها المجتمعات التقليدية عبر قرون من التفاعل مع بيئاتها، في سياق يشهد اهتماماً متزايداً بالمعارف الأصلية وإمكانية توظيفها في مواجهة التحديات البيئية المعاصرة. كما تكتسب الدراسة أهمية خاصة في ظل التحديات التي تواجهها المنطقة حالياً، والمرتبطة بمشكلات ندرة المياه وتدهور الغطاء النباتي وضعف البنية التحتية المائية.
السياق الجغرافي والتاريخي لمنطقة حاحا

خريطة توضح الموقع الجغرافي لمنطقة حاحا بالمغرب
الموقع والحدود الجغرافية
تقع منطقة حاحا في الجزء الجنوبي الغربي من المغرب، وقد اختلفت حدودها الجغرافية عبر العصور التاريخية المختلفة. في الفترة الكلاسيكية، كانت تطلق على منطقة شاسعة تمتد من بلدة تادنست في الجنوب، وتجاور دكالة غرباً وتمتد نحو السوس. ويصف المؤرخ مارمول كاربخال في كتابه "أفريقيا" الموقع الجغرافي لهذه المنطقة قائلاً:
"إقليم حاحا هو الجزء الواقع في أقصى غرب مملكة مراكش... يحتل جميع رأس الأطلس الكبير، الذي يسميه الأفارقة تبقال، ويحده من الغرب والشمال المحيط ومن الجنوب جبال الأطلس الكبير المتاخمة لإقليم سوس ومن الشرق نهر أسيف المال، الذي يفضله عن إقليم مراكش."
في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، تقلصت حدود منطقة حاحا من الشمال بسبب دخول العرب الهلاليين الذين استقدمهم يعقوب المنصور الموحدي. تدفق هؤلاء على السواحل بالشاوية ودكالة، فاختلطوا بالسكان الأمازيغ ونشروا اللغة العربية وتقاليدها في هذه المناطق. ونتيجة لذلك، أخذت هذه المناطق تتعرب تدريجياً حتى غلبت العربية على اللهجات المحلية في كل من دكالة وعبدة والشياظمة.
أما في الوقت الحاضر، فيقتصر موطن حاحا الأمازيغية على منطقة محصورة بين مدينتي الصويرة وأكادير، حيث تستوطنه اثنتا عشرة قبيلة متجاورة موزعة على ثلاثة صفوف جغرافية:
الصف الساحلي
- إداوكرض
- إداوسارن
- إداوكيلول
- أيت امر
صف الوسط الهضبي
- إنكافن
- امكراد
- إداوكازو
- إداوتغما
الصف الشرقي الجبلي
- أيت زلطن
- إداوزمزم
- إداوبوزيا
- أيت عسى
التضاريس والخصائص الطبيعية
تتميز منطقة حاحا بتنوع تضاريسها وخصائصها الطبيعية، حيث يمكن تقسيمها، وفقاً للرحالة شارل دو فوكو الذي زار المنطقة في القرن التاسع عشر، إلى أربعة أقسام طبيعية رئيسية:
القسم الطبيعي | الخصائص | النظام البيئي السائد |
---|---|---|
أجراف الشاطئ | تشكل الواجهة البحرية للمنطقة، وتتميز بانحدارها الشديد نحو المحيط الأطلسي | نباتات مقاومة للملوحة وبعض النباتات الصحراوية المقاومة للرياح |
الأودية | مناطق منخفضة تتجمع فيها مياه الأمطار موسمياً، وتنتشر فيها القرى والتجمعات السكنية | أراضي زراعية محروثة وتشكل المجال الزراعي الرئيسي للمنطقة |
الشواطئ | مناطق متموجة تتخللها الشعاب والمنحدرات الوعرة، وتغطيها أشجار الأركان | غابات الأركان المتكيفة مع المناخ الجاف وتشكل ثروة طبيعية أساسية للمنطقة |
الهضاب | تشكل الجزء الأكبر والأهم من أراضي حاحا، وتتميز بارتفاعها النسبي وتضاريسها المتنوعة | نظام بيئي متنوع يجمع بين الغطاء النباتي الطبيعي والزراعات البعلية المعتمدة على الأمطار |
يتميز المشهد الطبيعي لمنطقة حاحا بهيمنة شجرة الأركان (Argania spinosa) التي تشكل غطاءً نباتياً فريداً متكيفاً مع المناخ الجاف، وتعتبر ثروة طبيعية واقتصادية أساسية للمنطقة. وتعد هذه الشجرة من الأنواع المستوطنة في المغرب، ولها قدرة استثنائية على التكيف مع ظروف الجفاف وندرة المياه.
الموارد المائية وتحدياتها
تعاني منطقة حاحا من ضعف ملحوظ في الموارد المائية، على الرغم من إطلالها على الساحل الأطلسي في جزء كبير منها. ويعزى هذا الضعف إلى مجموعة من العوامل الطبيعية والبشرية المتداخلة، من أبرزها:
- قلة الأودية وصغر حجمها، مع تعرضها للجفاف الموسمي المتكرر
- ضعف التساقطات المطرية وعدم انتظامها على مدار السنة
- تراجع منسوب المياه الجوفية نتيجة الاستغلال المفرط وتغير أنماط التساقطات
- تدهور الغطاء النباتي الطبيعي الذي يساهم في الحفاظ على التربة ومنع التبخر السريع للمياه
- ضعف البنية التحتية المائية وقلة المنشآت المخصصة لتخزين وتوزيع المياه
وفي ظل هذه الندرة المائية، لجأت ساكنة المنطقة إلى حفر الآبار والاعتماد على مصادر المياه الجوفية لتلبية احتياجاتها اليومية. كما طورت تقنيات تقليدية لجمع وتخزين مياه الأمطار، من بينها "المطفيات"، وهي أحواض تجميع المياه التي لا تزال مستخدمة في العديد من مناطق حاحا.
حالة الاحتقان المائي: 2012-2013
في صيف 2012، شهدت عدة دواوير في منطقة حاحا أزمة مائية حادة أدت إلى نضوب الموارد المائية بشكل شبه كامل في:
أدت هذه الأزمة إلى موجة من الاحتجاجات التي بدأت بشكل سلمي في:
- 31 يوليوز 2012: احتجاجات دوار بوزرو
- 02 غشت 2012: احتجاجات بهو قيادة سميمو
- 13 غشت 2012: مسيرة جماهيرية ووقفة احتجاجية أمام مقر الجماعة
هذه الأزمة تعكس حدة المشكلة المائية في المنطقة وضعف استجابة الجهات المسؤولة لمعالجتها بشكل جذري.
من الجدير بالذكر أن المنطقة شهدت تحولاً كبيراً في نظامها المائي عبر التاريخ. فقد كانت منطقة إذاوكرض، على سبيل المثال، مجالاً لزراعة قصب السكر حتى نهاية القرن التاسع عشر، معتمدة على مياه واد القصب الذي كان دائم الجريان. غير أن تراجع مياه هذا الوادي من حالة الجريان الدائم إلى الجريان الموسمي أدى إلى توقف هذه الزراعة، في مؤشر واضح على التغيرات المناخية والبيئية التي شهدتها المنطقة.
لمحة تاريخية عن المنطقة وساكنتها
تعد قبائل حاحا من أقدم القبائل المغربية، وهي تنتمي، حسب النسابين، إلى قبائل مصمودة من شعوب البرانس الأمازيغية. ويعود اسم "حاحا" إلى فترة ما قبل الإسلام، حيث يطلق على المجال الجغرافي الذي تستوطنه هذه القبائل.
المراحل التاريخية الرئيسية لمنطقة حاحا
الفترة ما قبل الإسلامية
قبل القرن السابع الميلادي
استوطنت قبائل أمازيغية المنطقة منذ زمن بعيد، وكان لها اتصال مع الفينيقيين والقرطاجيين. أسس أمراء قبائل حاحا قلعتي الصويرة وأكادير كمنافذ تجارية على المحيط الأطلسي.
العصر المرابطي والموحدي
القرنين 11-12 الميلادي
ناصر أهل حاحا دعوة المهدي بن تومرت في بداية الدعوة الموحدية، قبل أن يرتدوا عنها في عام 541هـ/1146م مع قبائل مصمودة الأخرى، مما دفع عبد المؤمن إلى إرسال قادته لإعادة الدعوة الموحدية إلى المنطقة.
العصر المريني
القرنين 13-14 الميلادي
عاشت قبائل حاحا على شكل أحياء صغيرة تحيط نفسها بأسوار للحماية، وكانت تحكمها النخب المحلية التي تدير شؤون قبائلها من خلال قلاع "إيكيدار"، التي شكلت نوعاً من الحكم المحلي المستقل.
العصر السعدي
القرن 16 الميلادي
شكلت التجمعات السكنية في منطقة حاحا وإيداوتنان صعوبات للمخزن السعدي، قبل أن تتعرض للهجمات البرتغالية والعربية التي أدت إلى تدمير العديد من القلاع التي وصفها الحسن الوزان بـ"مدن حاحا".
العصر العلوي المبكر
القرن 17-18 الميلادي
تحولت حاحا إلى قبيلة مخزنية في عهد المولى الرشيد والمولى إسماعيل، مع استمرار بعض المقاومة من قبائل الجبال في منطقة إيداوتنان. كانت المنطقة مسرحاً للصراعات بين أبناء السلطان المولى إسماعيل.
فترة سيدي محمد بن عبد الله
1757-1790 الميلادي
شهدت هذه الفترة تأسيس مدينة الصويرة الجديدة كبوابة تجارية رئيسية للمنطقة، وهو ما أثر بشكل كبير على البنية الاقتصادية والاجتماعية لقبائل حاحا.
الفترة المعاصرة
من القرن 20 حتى الآن
شهدت المنطقة تحولات اقتصادية واجتماعية كبيرة، مع تراجع الزراعات التقليدية لصالح الاقتصاد القائم على استغلال الموارد الطبيعية، خاصة شجرة الأركان. كما برزت تحديات بيئية متعلقة بالتغير المناخي وندرة المياه وتدهور الغطاء النباتي.
الأزمات المناخية وتأثيرها على المنطقة
شهدت منطقة حاحا، عبر تاريخها الطويل، سلسلة من الأزمات المناخية المتمثلة أساساً في موجات الجفاف المتعاقبة وندرة الموارد المائية. وقد تركت هذه الأزمات بصماتها العميقة على البنية الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة، وفرضت على ساكنتها تطوير آليات خاصة للتكيف والتأقلم مع هذه التحديات البيئية.
مظاهر الأزمات المناخية
-
تراجع التساقطات المطرية
انخفاض معدل التساقطات السنوية وعدم انتظامها، مما يؤثر سلباً على المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية
-
جفاف الأودية والعيون
تحول الأودية دائمة الجريان إلى مجاري موسمية، ونضوب العديد من العيون والمنابع المائية الطبيعية
-
تدهور الغطاء النباتي
تراجع مساحة غابات الأركان وتدهور حالتها بسبب الرعي المفرط والقطع الجائر، مما يزيد من ظاهرة التصحر والتعرية
-
تراجع منسوب المياه الجوفية
انخفاض مستويات المياه الجوفية بشكل ملحوظ مما أدى إلى جفاف العديد من الآبار وتملح مياه الآبار الساحلية
التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية
-
تراجع الإنتاج الزراعي
انخفاض في إنتاجية المحاصيل والزراعات البعلية، مما أدى إلى تقلص دخل الأسر المعتمدة على الزراعة
-
تفاقم ظاهرة الهجرة القروية
ارتفاع معدلات الهجرة نحو المراكز الحضرية بحثاً عن مصادر بديلة للدخل، مما أدى إلى تفكك بعض التجمعات السكنية الصغيرة
-
تحولات في البنية الاقتصادية
انتقال من اقتصاد قائم على الزراعة والرعي إلى اقتصاد أكثر اعتماداً على استغلال شجر الأركان وتثمين منتوجاته
-
تهديد الأمن المائي والغذائي
تفاقم مشكلة الوصول إلى مياه الشرب النظيفة وتزايد الاعتماد على المواد الغذائية المستوردة من خارج المنطقة

آثار الجفاف على الغطاء النباتي والتربة في منطقة حاحا
تشير الدراسات المناخية التاريخية إلى أن منطقة حاحا، كغيرها من مناطق المغرب، قد شهدت تعاقباً دورياً لفترات الجفاف عبر القرون. غير أن ما يميز العقود الأخيرة هو تزايد وتيرة وشدة هذه الفترات الجافة، وتقلص الفترات الزمنية الفاصلة بينها، وهو ما يترجم تأثير ظاهرة التغير المناخي العالمية على المنطقة.
استراتيجيات التكيف مع الأزمات المناخية
في مواجهة التحديات المناخية المتزايدة، طورت ساكنة منطقة حاحا مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات التكيفية التي تجمع بين المعارف التقليدية المتوارثة عبر الأجيال والتقنيات الحديثة، وذلك بهدف تحقيق الاستدامة في استغلال الموارد الطبيعية المحدودة وضمان استمرارية سبل العيش.
استراتيجيات إدارة الموارد المائية
- تطوير تقنيات "المطفيات" لجمع وتخزين مياه الأمطار
- حفر الآبار بتقنيات تقليدية تراعي خصوصية التربة المحلية
- تنظيم توزيع المياه وفق نظام عادل يديره "أمغار ن وامان" (شيخ الماء)
- إنشاء سدود تلية صغيرة لتجميع مياه الوديان الموسمية
- تحلية مياه البحر في المناطق الساحلية (حديثاً)
استراتيجيات التكيف الزراعي
- اعتماد نظام "تاويالا" (دورة زراعية تناوبية) للحفاظ على خصوبة التربة
- زراعة محاصيل متحملة للجفاف مثل الشعير والصبار
- تطوير تقنيات الزراعة البعلية المتكيفة مع ندرة المياه
- الزراعة داخل "أكدال الأركان" (محميات الأركان) لتحقيق استدامة الاستغلال
- استخدام تقنيات الري بالتنقيط لتوفير المياه (حديثاً)
استراتيجيات اجتماعية واقتصادية
- تنويع مصادر الدخل والاستثمار في قطاعات غير زراعية مثل السياحة والحرف
- تأسيس تعاونيات نسائية لاستخراج وتسويق زيت الأركان
- إحياء نظام "تويزا" (العمل الجماعي التطوعي) في مشاريع البنية التحتية المائية
- تقوية نظام "أكدال" (المناطق المحمية جماعياً) للحفاظ على الموارد الطبيعية
- تطوير وتعزيز هجرة موسمية منظمة للعمل في المدن ثم العودة للقرية
المعارف والتقنيات التقليدية في إدارة الموارد المائية
تمتلك منطقة حاحا رصيداً غنياً من المعارف والتقنيات التقليدية في مجال إدارة الموارد المائية، والتي تعكس تراكم خبرات عديدة تم توارثها عبر أجيال من التعامل مع تحديات ندرة المياه والتقلبات المناخية. ومن أبرز هذه التقنيات:
المطفيات (أحواض تجميع مياه الأمطار)
هي أحواض أرضية يتم حفرها بهدف تجميع مياه الأمطار وتخزينها للاستخدام خلال فترات الجفاف. يتم اختيار موقع المطفية عادة في المناطق المنخفضة التي تتجمع فيها مياه الأمطار بشكل طبيعي. تتميز هذه التقنية بتكلفتها المنخفضة وسهولة تنفيذها، كما أنها توفر مخزوناً مائياً يكفي للاستخدامات المنزلية وسقي الماشية.
الخطارات (قنوات المياه الجوفية)
هي نظام قنوات أفقية تمتد تحت سطح الأرض، تعمل على جمع المياه الجوفية من الطبقات المائية الضحلة ونقلها إلى السطح بفعل الجاذبية، دون الحاجة إلى ضخها. يمتاز هذا النظام بالاستدامة، حيث يعتمد على الطاقة الطبيعية ويقلل من نسبة التبخر، كما أنه يساهم في الحفاظ على منسوب المياه الجوفية من الاستنزاف.

نظام "تاواكت" (صهريج المياه)
تاواكت هو خزان مائي يشبه البركة، يبنى من الحجارة والطين، ويتم تبطينه بمواد عازلة طبيعية لمنع تسرب المياه. يستخدم لتخزين مياه الأمطار والمياه المتدفقة من الينابيع والأودية الموسمية، ويمكن أن يوفر مياه الشرب والري لعدة أشهر.
المؤسسات التقليدية لإدارة المياه
- أمغار ن وامان (شيخ الماء): شخص يتم اختياره من قبل الجماعة ليشرف على توزيع الماء وصيانة المنشآت المائية
- الجماعة: تنظيم تقليدي يتولى اتخاذ القرارات الجماعية المتعلقة بإدارة الموارد المائية
- تويزا: العمل الجماعي التطوعي لبناء وصيانة المنشآت المائية المشتركة
شجرة الأركان: تراث طبيعي وثقافي مقاوم للجفاف

غابة الأركان المتكيفة مع المناخ الجاف في منطقة حاحا
تمثل شجرة الأركان (Argania spinosa) عنصراً محورياً في استراتيجيات التكيف مع الأزمات المناخية في منطقة حاحا، فهي ليست مجرد مورد اقتصادي، بل تشكل نظاماً بيئياً متكاملاً ورمزاً ثقافياً عميق الجذور في هوية المنطقة. تتميز هذه الشجرة النادرة، التي تنمو حصرياً في جنوب غرب المغرب، بقدرتها الاستثنائية على التكيف مع ظروف الجفاف وندرة المياه، إذ تمتد جذورها لأعماق كبيرة بحثاً عن المياه الجوفية، ويمكنها العيش لأكثر من 200 سنة.
النظام البيئي لغابة الأركان
- تساهم في الحفاظ على طبقات التربة ومنع انجرافها
- تشكل حاجزاً طبيعياً أمام زحف التصحر والرمال
- تعمل كخزان للمياه الجوفية وتنظم دورة المياه في المنطقة
- توفر موطناً للعديد من الكائنات الحية، مما يعزز التنوع البيولوجي
- تمتص كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، مما يساهم في مكافحة الاحتباس الحراري
الأهمية الاقتصادية والاجتماعية
- توفر مصدر رزق لآلاف الأسر، خاصة من خلال إنتاج زيت الأركان ذي القيمة العالية
- تساهم في تمكين المرأة القروية اقتصادياً من خلال التعاونيات النسائية
- تقدم علفاً للماشية خلال فترات الجفاف، مما يدعم الثروة الحيوانية
- تشكل عنصراً جاذباً للسياحة البيئية والثقافية
- ارتبطت بتطوير منظومة "أكدال الأركان" التي تنظم استغلال هذا المورد بطريقة مستدامة
"المحافظة على غابات الأركان ليست مجرد حماية لمورد اقتصادي، بل هي حماية لنمط حياة متكامل وتراث ثقافي وبيئي متفرد، طورته الأجيال المتعاقبة في تفاعل حميمي مع البيئة المحلية."
في عام 1998، تم إعلان غابة الأركان محمية للمحيط الحيوي من قبل منظمة اليونسكو، وذلك اعترافاً بأهميتها البيئية والثقافية الاستثنائية. وقد أدى هذا الاعتراف الدولي إلى زيادة الوعي بضرورة حماية هذه الشجرة النادرة، وتشجيع المبادرات المحلية والدولية الرامية إلى الحفاظ عليها وتطوير استغلالها بطرق مستدامة.
الدروس المستفادة: نحو مقاربة تكاملية للتكيف المناخي
تقدم تجربة منطقة حاحا في التعامل مع الأزمات المناخية وندرة الموارد المائية دروساً قيمة يمكن الاستفادة منها في تطوير استراتيجيات تكيف مستدامة، تجمع بين المعارف التقليدية المتوارثة والتقنيات الحديثة، وتراعي الخصوصيات البيئية والثقافية للمجتمعات المحلية.
دروس وتوصيات للتكيف المناخي المستدام
على المستوى المحلي والمجتمعي
- إحياء وتطوير المعارف والتقنيات التقليدية في إدارة الموارد المائية
- تعزيز دور المؤسسات التقليدية مثل الجماعة في تدبير الموارد الطبيعية
- تفعيل مبدأ "تويزا" (العمل الجماعي) في تنفيذ مشاريع البنية التحتية المائية
- تشجيع المقاربات التشاركية التي تدمج المجتمع المحلي في تخطيط وتنفيذ مشاريع التكيف
- توثيق المعارف المحلية وإدماجها في المناهج التعليمية المحلية
على المستوى الوطني والتخطيطي
- تبني مقاربة شمولية تجمع بين الحلول التقنية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية
- إدماج المعارف التقليدية في السياسات الوطنية للتكيف مع التغير المناخي
- تطوير نظم الإنذار المبكر للأزمات المناخية بالاعتماد على المؤشرات المحلية والعلمية
- الاستثمار في البحث العلمي حول النظم البيئية المحلية وقدرتها على التكيف
- تنويع مصادر الدخل المحلية وتطوير اقتصاد أكثر مرونة في مواجهة التقلبات المناخية
خاتمة
مثّلت منطقة حاحا على مر العصور نموذجاً حياً للتفاعل الخلاق بين الإنسان والبيئة، حيث طوّرت الساكنة المحلية أنماطاً معيشية واستراتيجيات تكيّفية متنوعة سمحت لها بالاستمرار والازدهار رغم التحديات المناخية والبيئية الصعبة. إن هذه التجربة الغنية، بما تحمله من معارف تقليدية ومؤسسات محلية وممارسات مستدامة، تشكل رصيداً قيّماً يمكن الاستفادة منه في مواجهة تحديات التغير المناخي المعاصرة.
تبرز هذه الدراسة أهمية تبني مقاربة تكاملية في التعامل مع قضايا التكيف المناخي، تجمع بين احترام التراث المعرفي المحلي والاستفادة من التقنيات الحديثة والمعارف العلمية، وتضع الإنسان في قلب أي استراتيجية تنموية. كما تؤكد على ضرورة إشراك المجتمعات المحلية في تصميم وتنفيذ وتقييم مشاريع التنمية والتكيف، باعتبارها المعنية الأولى بآثار التغير المناخي وصاحبة المصلحة الحقيقية في نجاح هذه المشاريع.
وفي الختام، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه منطقة حاحا وغيرها من المناطق المشابهة هو كيفية تحقيق التوازن الدقيق بين الحفاظ على التراث الطبيعي والثقافي من جهة، والاستجابة لمتطلبات التنمية والتحديث من جهة أخرى. ولعل السبيل الأمثل لتحقيق هذا التوازن هو من خلال الاستماع الجاد لصوت المجتمعات المحلية وتثمين معارفها وخبراتها، وبناء جسور التعاون الفعال بين مختلف الفاعلين المحليين والوطنيين والدوليين، في إطار رؤية شاملة ومتكاملة للتنمية المستدامة.
شكر وتقدير
تم إعداد هذه الدراسة في إطار ماستر "الماء في تاريخ المغرب" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، تحت إشراف الدكتور هشام الركيك. نتقدم بالشكر الجزيل للأساتذة والباحثين الذين قدموا مساعدة قيمة خلال مراحل إعداد هذا البحث، ولساكنة منطقة حاحا التي منحتنا فرصة التعرف على تراثها الغني وتجربتها الفريدة.
المراجع والمصادر
- الركيك، هشام. "المنشآت المائية ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب الوسيط". منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش، 2018.
- الجراري، عبد الله. "نظم إدارة المياه التقليدية في منطقة سوس-ماسة". مجلة العلوم الإنسانية، العدد 12، جامعة ابن زهر، أكادير، 2016.
- عريش، محمد. "قبائل حاحا: دراسة في التاريخ الاجتماعي والثقافي". منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الرباط، 2014.
- El Fasskaoui, Brahim. "Fonctions, défis et enjeux de la gestion et du développement durables dans la Réserve de Biosphère de l'Arganeraie (Maroc)". Études caribéennes, No. 12, 2019.
- Humbert, André. "Le climat du Sud-Ouest marocain". Revue de Géographie du Maroc, n°7, Rabat, 2008.
- Le Polain de Waroux, Yann. "The Social and Environmental Context of Argan Oil Production". Natural Product Communications, Vol. 8, 2013.
- فردان، عزيز وأمجهادي، عبد الله. "استراتيجيات التكيف مع الأزمات المناخية في منطقة حاحا: دراسة تاريخية-أنثروبولوجية". بحث ماستر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش، 2024.