دراسة شاملة للتصوف والطرق الدينية في المغرب ودورها في تشكيل النسيج الاجتماعي والثقافي، مع تحليل لعلاقتها بالسلطة السياسية عبر مختلف الفترات التاريخية، وتأثيرها على العمارة والفنون والأدب، وحضورها في المجتمع المغربي المعاصر
حول هذه الدراسة
تتناول هذه الدراسة ظاهرة التصوف والطرق الدينية في المغرب من زوايا متعددة، بدءاً بالأصول التاريخية للتصوف الإسلامي، ومراحل تطوره وأنواعه، وصولاً إلى الزوايا الصوفية ودورها الديني والعلمي والاجتماعي في المجتمع المغربي. تسلط الدراسة الضوء على خصوصية التصوف المغربي الذي يعتبر المذهب السني الجنيدي أحد ثوابته، وتبرز أدوار الزوايا المتنوعة وتأثيرها على مختلف جوانب الحياة في المغرب عبر العصور.
تقديم
يعتبر التصوف جانبا من أخص جوانب الحياة الروحية في الإسلام، وهو تجربة وسلوك قبل أن يكون مذهبا وفكرا. يعد التصوف تعميقا لمعاني العقيدة واستنباطا لظواهر الشريعة، وتأملا لأحوال الإنسان في الدنيا وتأويلا للرموز.
التصوف يعطي للشرائع قيما موغلة في الأسرار، كما أن فيه انتصارا للروح على الحرف أو المضمون على الشكل. يعتبره علماء الإسلام من العلوم الشرعية أو العلوم الدينية، بينما أثبتت بعض الدراسات الحديثة أنه فرع من فروع الفلسفة الإسلامية.
والتصوف تجربة روحية فردية خالصة، والصوفية أو "القوم" يجمعهم موقف مشترك يتلخص في أنهم ينكرون إنكارا باتا أن الحقيقة هي ذلك الواقع المحسوس، لأن الواقع المحسوس الذي يتشبث به غيرهم، لا يشبع في طائفة الصوفية نزعاتهم الروحية العالية ولا يروي فيهم غلة الشوق إلى معرفة الحقيقة المجردة التي تصبو نفوسهم إلى معرفتها والاتصال بها.
أسئلة الدراسة
يثير موضوع التصوف جملة من التساؤلات التي تحاول هذه الدراسة الإجابة عنها:
- ما هو التصوف وما أصل تسميته؟
- ما نوع التصوف المنتشر في المغرب؟
- ماذا نقصد بالطرق الصوفية أو الزوايا؟
- ما هي أهم وظائف الزوايا الصوفية في المجتمع المغربي؟
يدعي المتصوفة أن بلوغ الحقيقة يكون بالمعرفة القلبية والذوقية لا بالمعرفة العقلية والحسية العاجزة عن كشف الحجب والمغيبات والاتصال بعالم الملكوت والأنوار. ولا يزال التصوف قائما منذ نشأته في صدر الإسلام حتى يومنا هذا، ويتميز بجملة من السمات أهمها التخلي عن العالم والزهد فيه، والتعويل على "الكشف" و"الذوق" و"المعرفة الباطنية".

حلقة ذكر صوفية تقليدية في إحدى زوايا المغرب
I. تعريف التصوف ومراحل نشأته
١. تعريف التصوف
إن التصوف قد اختلف في أصله واشتقاقه وتضاربت حوله الآراء، ولم ينته إلى نتيجة حاسمة. ولقد تنبه ابن خلدون إلى هذا الأمر، إذ قال في كتابه "شفاء السائل في تهذيب المسائل": «وقد حاول كثير من القوم (أي رجال التصوف) التعبير عن هذا التصوف بلفظ جامع يعطي شرح معناه، فلم يف بذلك قول من أقوالهم».
«وأقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد عن ألف قول ويطول نقلها...»
آراء في أصل كلمة التصوف
الصوف
ألفاظ التصوف والصوفي والصوفية مشتقة من "الصوف" الذي تميز الزهاد والنساك بلبس الخشن منه.
الصفة
اشتقاقها من "الصفة" وهي مقعد مغطى خارج المسجد الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببنائه في المدينة، كان يأوي إليه بعض فقراء المسلمين ممن لم تكن لهم بيوت.
الصفاء
اشتقاقها من "الصفاء" أي الطهر الروحي، حيث صفت قلوب أهل الصوفية من الشرور وأكدار الدنيا وشهواتها.
صوفيا
قيل أنها مشتقة من الكلمة اليونانية "صوفيا" ومعناها الحكمة الإلهية.
الصف
اشتقاقها من "الصف" استنادا إلى القول أن الصوفية كانوا أول الناس مجيئا إلى المسجد فيشكلون الصف الأول من بين المؤمنين في الصلاة.
الرأي الراجح
يرى ابن خلدون أن اشتقاق "التصوف" أو "المتصوفة" من الصوف أقرب إلى الصواب لاختصاص أصحابه بلبس الصوف، ويؤيد هذا الرأي أبو نصر السراج الطوسي حيث قال في كتابه "اللمع في التصوف": «إن الصوفية هم معدن جميع العلوم وحل جميع الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة... فلما كانوا في الحقيقة كذلك، لم يكونوا مستحقين اسما (تعريفا) دون اسم... فلما لم يكن ذلك (ممكنا) نسبتهم إلى ظاهر لبسهم، لأن لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام وشعار الأولياء والأصفياء...».
من أشهر تعاريف التصوف
-
معروف الكرخي: «التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق».
-
الإمام الجنيد: «تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدعاوي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول في الشريعة».
-
ابن خلدون: «أصل التصوف هو العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرفة الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف فلما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية».
٢. نشأة التصوف
يتوجب القول أن التصوف الإسلامي لم يكن نظاما أجنبيا غريبا عن الإسلام ولا دخيلا من النصرانية أو اليهودية أو البوذية... وأن أصول التصوف موجودة في القرآن الكريم وفي الحديث وفي العقيدة الإسلامية وشعائر الدين نفسه.
وهذا لا يمنع من الاعتراف بأن أنظمة كالتصوف أساسها الزهد والتقشف كانت موجودة في الديانات الأخرى. إن التصوف إسلامي الجذور، ولكن لحقت به عبر بعض الفترات التاريخية سمات ومؤثرات خارجية بعدما انخرط فيه بعض الخارجين وضعاف العقيدة وأصحاب الأهواء مما كان لهؤلاء جميعا أثرهم السيء.
«أن هذا العلم (أي التصوف) من العلوم الشرعية الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عن سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور...»
وقد اعتمدنا في قولنا هذا على ما توصل إليه المستشرق "ماسينيون" المتخصص في التصوف الإسلامي حيث قال بأن التصوف الإسلامي نابع من القرآن الكريم ثم العلوم الإسلامية كالحديث والفقه وما إلى ذلك.
المصادر الأصلية للتصوف الإسلامي
القرآن الكريم
آيات تحث على الزهد في الدنيا والتأمل في ملكوت الله والخشية منه والرجاء فيه
السنة النبوية
الأحاديث النبوية التي تحث على الزهد والتقوى وتزكية النفس ومحاسبتها
سيرة السلف الصالح
زهد وورع الصحابة والتابعين وسلوكهم في العبادة والتقرب إلى الله

مخطوطات صوفية قديمة تعود لفترات مختلفة من تاريخ التصوف الإسلامي
مراحل تطور التصوف الإسلامي

مرحلة الزهد
تميزت بكون الصحابة والزهاد كانوا يتخذون من القرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في العبادة والزهد والتقوى. وقد نشأ هذا التصوف أو الزهد إسلاميا بحتا، خاليا من أي مؤثرات خارجية، ويعتبر الحسن البصري ورابعة العدوية من أشهر زهاد هذه المرحلة.

مرحلة التصوف العملي
اتجه المتصوفة في هذه المرحلة إلى تحليل النفس ونقد عيوبها وتطهيرها وبيان أحوالها ومقاماتها وتعلقوا بالعشق الإلهي. وبدأ الصوفية يميزون بين الظاهر والباطن من الشريعة ومن حياة الإنسان وأولوا الأهمية للباطن (القلب والنفس والنية...) باعتباره أساس ذلك الظاهر وقوامه. وظل تصوفهم سنيا معتدلا ملتزما بأوامر الشرع.

مرحلة التصوف الفلسفي
تميز هذا النوع من التصوف بظهور نظريات وآراء فلسفية غريبة عن العقيدة الإسلامية وقد تأثر هذا التصوف بأفكار أفلاطونية. حيث بدأ التصوف يقيم دعائمه على أسس فلسفية، فظهرت نظريات في الوجود والمعرفة تقترب من نظريات الفلاسفة مثل نظرية الاتحاد والحلول، ونظرية الوحدة المطلقة ونظرية وحدة الوجود، مما جعل أقطاب هذا التصوف يزيغون عن التصوف السني.

التصوف الجمعي أو الطرقي
بزغ هذا الشكل الجديد من التصوف عندما انتقل من كونه سلوكا فرديا إلى سلوك جماعي، فظهرت طرق صوفية كثيرة تنسب إلى شيخ معين أو قطب بارز له أتباع كثيرون، ويتبعون مسلكه في المعرفة الدينية. ويلزم المريد شيخه فيتبعه ليهديه ويرشده في سفره الصوفي وتعراجه الذوقي. وانتشرت عدة طرق صوفية في العالم الإسلامي قديما وحديثا وارتبطت بالزوايا والمساجد.
II. التصوف السني الجنيدي
يتميز التصوف السني بالتزامه بالشريعة، ويحرص المتصوفة السنيون على ألا تخرج تجربتهم الصوفية عن الحدود الدينية، حيث كيفوا مذاهبهم مع القرآن الكريم والسنة النبوية. ومن أبرز أعلام التصوف السني نجد الإمام الجنيد وأبو حامد الغزالي.
الإمام الجنيد: شيخ الطائفة وإمام التصوف السني

الجنيد بن محمد
أبو القاسم الخزاز القواريري
منهج الجنيد في التصوف
كان تصوف شيخ الطائفة أبا القاسم الجنيد سنيا معتدلا، حيث اعتبر أن التصوف مرتبط بالشريعة ولا يتعدى حدودها ويقوم على مجاهدة النفس وتزكيتها. إن جوهر التصوف عنده هو الفناء عن الذات والبقاء بالله، أو هو الوصول إلى حال يكون فيها الحق سمع العبد وبصره على حد تعبير الحديث القدسي.
فالجنيد لم يشطح في تصوفه مثلما شطح غيره من المتصوفة الغلاة، بل التزم حدود القرآن والسنة ولم يدع الكرامات والرؤية واللقاء وغيرهما من الأمور التي ادعاها البعض. ومن هنا ندرك سبب الهجوم المستمر للجنيد على بعض المتصوفة الغلاة كالحلاج.
من أقواله المأثورة:
- «الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته ولزم طريقه، فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه».
- «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدي به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة».
- «إن مذهبنا مقيد بأصول الكتاب والسنة».
اتجه التصوف السني على حد تعبير "ابن خلدون" إلى «تقويم النفس وحملها على الصراط المستقيم حتى تصير لها آداب القرآن بالرياضة والتهذيب خلقا جبلية». ويعتبر التصوف السني الجنيدي ثابتا من أهم ثوابت المملكة المغربية.
الالتزام بالشريعة
أكد الجنيد ضرورة توافق حقيقة التصوف مع الشريعة، ورد بشدة على من ادعى إسقاط التكاليف الشرعية. وقد ثار حين قال أحد جلسائه: إن أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقوى، فرد عليه بأن هذا قول من يدعون إسقاط الأعمال.
مزج العلم بالتصوف
كان الجنيد يمزج بين العلم والتصوف، وكان في أول أمره يتفقه على مذهب أبي عبيد وأبي ثور، فأحكم الأصول، وصحب خاله السري السقطي والحارث بن أسد المحاسبي وتأثر بآرائهما. وكان الجنيد يرى أن التصوف علم لا بد من دراسته وتحصيله.
الصحو بعد السكر
عرف عن الجنيد نظريته في "الصحو بعد السكر"، حيث رأى أن الكمال في العودة إلى الصحو بعد السكر والغيبة والفناء، بحيث يتمكن الصوفي من أداء تكاليفه الشرعية والعودة لخدمة الخلق بعد تجربته الروحية. وفي هذا رد على من يدعون أن الوصول لمقام المعرفة يعفي من التكاليف.
III. الزوايا والطرق الصوفية
١. تعريف الزاوية
إن المتأمل في مفهوم الزاوية وتبلوره في المجتمع المغربي كنموذج تاريخي ليواجه كثيرا من الإشكاليات التي يطرحها وأولها صعوبة تحديد مفهوم دقيق للزاوية، كمرحلة تاريخية عرفها العالم الإسلامي، والمغرب على وجه الخصوص، ببنياته الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وثانيها صعوبة إيجاد مفهوم متفق عليه للزاوية.

زاوية تقليدية في المغرب تجمع بين وظائف المسجد والمدرسة ودار الضيافة
التحديد اللغوي
الزاوية تفيد الانزواء أي العزلة والابتعاد عن الناس، وبذلك يقرب معناها من معنى الرباط. الزاوية: زوي الزي مصدر زوي الشيء يزويه زيا وزويا فانزوى نحاه فتنحى. «الزاوية من البيت ركنه جمع زوايا وتزوى وانزوى صارفها».
التحديد الاصطلاحي
تعرف الزاوية بأنها "مكان لعبادة وإيواء الواردين وإطعامهم" ويعرف أهل الزاوية "بأنها مؤسسة اجتماعية واقتصادية ذات أساس ديني". بينما نجد تعريفا آخر هو أن الزاوية "أداة تنظيمية قبلية متطورة، تقوم بدور ديني مقدس وسياسي ودنيوي كنتيجة لنفوذها الاجتماعي".
باختصار تستند هذه التعاريف إلى تحديد الزاوية من ناحية الأدوار والأعباء التي تقوم بها. وفي تعريف أعمق وأدق نجد الزاوية "تمثل أساسا بنية اجتماعية مناقضة لبنى أخرى موجودة في مجالها وسابقة على نشأتها، وذلك بصرف النظر عن مضمون تعاليمها أو اللغة المستعملة بين أعضائها أو الغرض المعلن لأنشطتها".
أشهر الزوايا في المغرب
الزاوية التيجانية

أسسها أحمد التيجاني في فاس، وتعد من أهم الزوايا في المغرب وشمال أفريقيا، وانتشرت في العديد من البلدان الأفريقية.
الزاوية الدرقاوية

أسسها مولاي العربي الدرقاوي، وهي فرع من الطريقة الشاذلية، وانتشرت في مناطق مختلفة من المغرب، خاصة في جبال الريف.
الزاوية الناصرية

تأسست في تمكروت بوادي درعة على يد محمد بن ناصر الدرعي في القرن السابع عشر، وكان لها دور كبير في نشر العلم والتصوف في المناطق الجنوبية.
الزاوية البودشيشية

من أشهر الزوايا المعاصرة في المغرب، تتبع الطريقة القادرية، وتقع أساسا في مدينة بركان بالشرق المغربي، ولها أتباع كثر في المغرب وخارجه.
الزاوية الوزانية

تأسست في مدينة وزان على يد مولاي عبد الله الشريف، وكان لها دور مهم في العلاقات بين المغرب والدول الأوروبية في القرن التاسع عشر.
الزاوية الشرقاوية

تقع في أبي الجعد، أسسها سيدي محمد الشرقي، واشتهرت بدورها العلمي والتربوي، ولعبت دورا مهما في مقاومة الاستعمار.
٢. وظائف الزوايا
تباينت الآراء حول مؤسسة الزاوية وتشعبت البحوث حول تحديد مفهوم يمكن الاتفاق عليه لتعريفها أو تاريخ محدد لنشأتها، إلا أن هذا الاختلاف يتلاشى في مسألة الوظائف التي مارستها ولا تزال تمارسها. فلا خلاف في أن الزواية أولا مؤسسة دينية وعلمية واجتماعية ذات تأثير عميق في المجتمع المغربي.
أ) الوظيفة الدينية والعلمية
هنالك تلازم عميق وترابط وثيق بين الزاوية ووظيفتها الدينية والعلمية، إذ تنطلق من تربية روحية ومعرفية في آن واحد وتستهدف في المريد أن يقوي إيمانه بالله تعالى ويتعلم شرع الله، فالزاوية لم تفصل بين رسالتها الدينية ومهمتها العلمية، بل جعلت من المهمتين معا صورة واحدة للإسلام الصحيح الذي لا يقبل التجزيء أو الفصل بين الإيمان والعلم والعمل.
تحفيظ القرآن الكريم والقراءات
أجمع شيوخ الزوايا على تحفيظ القرآن الكريم لمن يرتاد زواياهم من أطفال ومريدين وطلبة، إذ كان الأطفال يبدؤون في سن مبكر بحفظ الحروف الهجائية يحفظون فاتحة الكتاب فسورة الناس، فسورة الفلق، ولا يزالون يوالون حفظ سور القرآن الكريم. كما تمثلت عناية الزوايا بالقرآن الكريم في دراسة القراءات القرآنية وتعليم الرسم القرآني.
وهكذا يحفظ المريد والطالب القرآن كتابة، رسما وضبطا ويحفظ القراءات وقواعد التجويد، ثم يشرع في دراسة تفسير معاني القرآن الكريم، مستعينا في ذلك بما يحفظه من متون كالأجرومية والألفية، كما يدرس أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرها من علوم القرآن.
تحفيظ الحديث
بعد أن يختم المريد القرآن الكريم ختما يشرع في حفظ الحديث النبوي حيث يبدأ بحفظ الأربعين النووية أولا، وبعد استظهارها ينتقل إلى حفظ غيرها من الأحاديث من موطأ الإمام مالك ومن صحيح البخاري ومسلم، ومن كتاب الشفا للقاضي عياض.
وتتنوع مواضيع هذه الأحاديث من أحاديث العقيدة وأحاديث العبادات وأحاديث الأحكام والأخلاق والسلوك وغيرها، مما يساعد المريد على فهم أساسيات الدين وتطبيقها في حياته اليومية، ويقوي صلته بالسنة النبوية.
تدريس الفقه وأصوله
تقوم مؤسسة الزوايا بالمغرب بتدريس الفقه المالكي ويتم التدرج بالمريد والطالب في دراسة المسائل الفقهية من خلال الموطأ وشروحه والبيان والتحصيل والمقدمات وغيرها من الأمهات.
وفي العصور المتأخرة وضعت منظومات تسهل للمريد معرفة أحكام الفقه المالكي في إيجاز واختصار، أصبحت تحفظ وتستظهر عن ظهر قلب منها المرشد المعين، ومنظومة العاصمية وغيرها، مما يؤهل الطالب للإلمام بأحكام الشريعة في مختلف المجالات.
المكتبات
قامت الزوايا بدور مهم في مختلف المجالات الاجتماعية والثقافية وغيرها، ولعل من أبرز الشواهد على ذلك هو المستوى الثقافي ما خلفته هذه الزوايا في مختلف العصور من مكتبات زاخرة بتراث نفيس، ونادرا ما نجد مثيله في المكتبات العالمية.
ثم إن حجم هذه المكتبات وقيمة محتوياتها تختلف من زاوية إلى أخرى، وتتفاوت بين الزاوية الأم والزاوية الفرعية ولكن الشيء الملاحظ هو أن الزاوية مهما كان حجمها أو مكانتها، لا تكاد تخلو من خزانة للكتب، وهذا وإن دل على شيء، فإنما يدل على ارتباط الممارسة الصوفية بالعلوم الشرعية ارتباطا وثيقا.

حلقة لتحفيظ القرآن الكريم في إحدى الزوايا المغربية التقليدية
ب) الوظيفة الاجتماعية
لم تقتصر وظائف الزوايا على الجوانب الدينية والعلمية فحسب، بل كانت لها أدوار اجتماعية مهمة في المجتمع المغربي، حيث كانت بمثابة ملجأ للفقراء والمحتاجين، ومأوى للغرباء والمسافرين، ومركزاً للإصلاح بين الناس وحل النزاعات.
الإيواء والإطعام
كانت الزوايا تستقبل المسافرين والغرباء وطلبة العلم، وتوفر لهم المأوى والطعام، حيث خصصت لذلك أماكن للإقامة ومطابخ لإعداد الطعام. وكانت تعتمد في ذلك على ممتلكاتها من الأراضي والأوقاف، وعلى الهبات والتبرعات التي كانت تتلقاها من المحسنين.
الإصلاح بين الناس
كان لشيوخ الزوايا مكانة اجتماعية مرموقة جعلتهم محل ثقة الناس، فكانوا يلعبون دور الوسطاء في حل النزاعات والخلافات بين الأفراد والقبائل. وكانت الزوايا فضاء للتحكيم والصلح، حيث يلجأ إليها المتخاصمون طلباً للعدل والإنصاف، وكان لكلمة شيخ الزاوية قوة إلزامية أدبية يحترمها الجميع.
التكافل الاجتماعي
كانت الزوايا مراكز للتكافل الاجتماعي، حيث كانت توزع المؤن والمساعدات على الفقراء والمحتاجين، خاصة في المناسبات والأعياد وفي أوقات الأزمات والمجاعات. كما كانت تقوم برعاية الأرامل والأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، وتوفير سبل العيش الكريم لهم.
ج) الوظيفة السياسية
لعبت الزوايا في المغرب دوراً سياسياً مهماً عبر التاريخ، فقد كانت في بعض الأحيان مراكز للمقاومة ضد الاستعمار، وفي أحيان أخرى وسيطاً بين السلطة والقبائل، كما كانت في فترات معينة مصدراً للشرعية السياسية للحكام.
أدوار الزوايا في تاريخ المغرب
دورها في مقاومة الاستعمار
كانت الزوايا مراكز للمقاومة ضد الاستعمار الأجنبي، حيث جمعت بين المقاومة المسلحة والمقاومة الروحية والثقافية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك دور الزاوية الدرقاوية في مقاومة الاستعمار الفرنسي، والزاوية الريسونية في مقاومة الاستعمار الإسباني في شمال المغرب.
دورها في تأسيس الدول
ساهمت بعض الزوايا في تأسيس دول وإمارات في المغرب، مثل الزاوية الدلائية التي أسست إمارة في القرن السابع عشر، والزاوية السملالية التي كان لها دور في تأسيس الدولة العلوية. كما كانت الزوايا مصدراً للشرعية السياسية للحكام، من خلال مبايعة شيوخها للسلاطين وتقديم الدعم المعنوي والمادي لهم.
دورها كوسيط بين السلطة والقبائل
كانت الزوايا تلعب دور الوسيط بين السلطة المركزية والقبائل، حيث كانت تنقل مطالب القبائل إلى السلطان، وتساهم في حل النزاعات بين القبائل وبين القبائل والسلطة. كما كانت تضمن ولاء القبائل للسلطان، وتسهل جباية الضرائب، وتحفظ الأمن والاستقرار في المناطق البعيدة عن المركز.
دورها في العلاقات الخارجية
لعبت الزوايا دوراً في العلاقات الخارجية للمغرب، من خلال شبكة علاقاتها مع الطرق الصوفية في بلدان أخرى، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء. وكانت وسيلة لنشر الإسلام والثقافة المغربية في هذه البلدان، كما كانت تسهل العلاقات التجارية والدبلوماسية، مثل دور الزاوية التيجانية في توطيد العلاقات بين المغرب وبلدان غرب إفريقيا.
IV. التصوف المغربي المعاصر: التحديات والآفاق
يشهد التصوف المغربي في العصر الحديث مجموعة من التحولات والتحديات، في ظل المتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعرفها المغرب والعالم. ورغم هذه التحديات، فإن التصوف لا يزال يحظى بمكانة مهمة في المجتمع المغربي، ويلعب دوراً في الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية للمغرب.
التحديات
- العولمة والحداثة: التحولات الاجتماعية والثقافية التي أفرزتها العولمة والحداثة، وما صاحبها من انتشار للقيم المادية والاستهلاكية، شكلت تحدياً للتصوف الذي يقوم على قيم الزهد والتقشف والروحانية.
- التيارات الدينية المنافسة: ظهور تيارات دينية جديدة، خاصة التيارات السلفية التي تنتقد بعض الممارسات الصوفية وتعتبرها بدعاً، شكل تحدياً آخر للتصوف المغربي.
- تراجع دور الزوايا التقليدي: تراجع الدور التقليدي للزوايا في التعليم والقضاء والإصلاح الاجتماعي، بعد أن تولت الدولة الحديثة هذه الوظائف من خلال مؤسسات حديثة كالمدارس والمحاكم والإدارات.
- تحديات الجيل الجديد: صعوبة جذب الشباب إلى التصوف، في ظل انشغالهم بقضايا الحياة المعاصرة واهتمامهم بالتكنولوجيا والعلوم الحديثة.
الآفاق
- الدعم الرسمي: تحظى الطرق الصوفية والزوايا بدعم رسمي من الدولة المغربية، التي ترى في التصوف السني المعتدل وسيلة لمواجهة التطرف الديني، ونشر قيم التسامح والاعتدال.
- التجديد والانفتاح: بدأت بعض الطرق الصوفية في تجديد خطابها وأساليبها، والانفتاح على العلوم الحديثة والتكنولوجيا، واستثمارها في نشر التصوف وقيمه، من خلال المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي.
- الانتشار الدولي: تشهد بعض الطرق الصوفية المغربية انتشاراً دولياً، مثل الطريقة البودشيشية والتيجانية، التي لها أتباع في أوروبا وأمريكا وإفريقيا، مما يعزز من مكانة التصوف المغربي عالمياً.
- الدور الإنساني: اتجاه بعض الزوايا إلى تعزيز دورها الإنساني والاجتماعي، من خلال إنشاء مشاريع تنموية وخيرية، ومؤسسات للرعاية الصحية والاجتماعية، مما يعزز من دورها في المجتمع.
السياسة الرسمية المغربية تجاه التصوف
يشكل التصوف السني الجنيدي أحد الثوابت الدينية للمملكة المغربية، إلى جانب العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي وإمارة المؤمنين. وتنظر السلطات المغربية إلى التصوف على أنه مكون أساسي من مكونات الهوية الدينية المغربية، وحصن منيع ضد التطرف والغلو.
وقد عملت الدولة المغربية على دعم وتشجيع الطرق الصوفية المعتدلة، من خلال مجموعة من الإجراءات والمبادرات، مثل إحياء المواسم والمناسبات الصوفية، وترميم الزوايا والأضرحة، وتنظيم المؤتمرات والندوات حول التصوف، وإدماج التصوف في المناهج التعليمية.
مبادرات رسمية داعمة للتصوف
- تأسيس "الرابطة المحمدية للعلماء" سنة 2006، التي تضم في هيئتها العلمية العديد من علماء التصوف.
- إحياء "جامعة القرويين" كمؤسسة علمية تعنى بالعلوم الإسلامية، بما فيها التصوف.
- إدماج دروس التصوف في برامج التلفزة والإذاعة الرسمية، خاصة خلال شهر رمضان.
- تنظيم ملتقيات دولية حول التصوف، مثل ملتقى "التصوف في الإسلام" الذي تنظمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
- إصدار مجلات ودوريات متخصصة في التصوف، مثل مجلة "التصوف الإسلامي" التي تصدرها الرابطة المحمدية للعلماء.
- إعلان مدينة "الصويرة" كعاصمة للتصوف، واحتضانها لمهرجان "سماع" للموسيقى الصوفية.
خاتمة
يمثل التصوف والطرق الدينية بالمغرب جزءاً أساسياً من الهوية الدينية والثقافية للمجتمع المغربي، وقد ساهم عبر التاريخ في تشكيل النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي للمغرب. وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها في العصر الحديث، فإن التصوف المغربي لا يزال حياً ومؤثراً، بفضل قدرته على التكيف مع المتغيرات، والحفاظ على أصالته وخصوصيته.
ويمتاز التصوف المغربي بتمسكه بالتصوف السني الجنيدي المعتدل، الذي يجمع بين الالتزام بالشريعة والانفتاح على التجربة الروحية، وبين العلم والعمل، وبين الفردية والجماعية. كما يتميز بارتباطه الوثيق بالمرجعية المالكية والعقيدة الأشعرية، مما جعله يشكل مع هذه المكونات منظومة دينية متكاملة، تعبر عن خصوصية الإسلام المغربي ووسطيته واعتداله.

موسم ديني صوفي في المغرب - تجمع للذكر والإنشاد الصوفي
عن الكاتب
إعداد: عزيز فردان
- مقدمة ابن خلدون
- لسان العرب لابن منظور
- مجمل تاريخ المغرب - عبد الله العروي
- التصوف والمجتمع - الشاذلي
- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية