مسيرة جامعة القاضي عياض منارة مراكش وقطب الجنوب

شعار جامعة القاضي عياض

"إن تأريخ المؤسسات العلمية ليس مجرد سرد لتطور البنى التحتية، بل هو استنطاق للذاكرة الجماعية التي شكلتها، ورصد للإسهامات الفكرية التي انبثقت من رحابها، وتتبع لمسار الأجيال التي نهلت من معينها."

تمهيد منهجي: السياق التاريخي لنشأة الجامعة

إن الحديث عن تاريخ جامعة القاضي عياض يقتضي من المؤرخ التزام رؤية منهجية تتجاوز السرد الكرونولوجي للأحداث، لتغوص في عمق التحولات التي شهدها المغرب في فترة ما بعد الاستقلال. ففي سياق سياسة اللامركزية الأكاديمية التي انتهجتها الدولة المغربية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، والتي هدفت إلى توزيع المؤسسات الجامعية على مختلف جهات المملكة لتقريب العلم من الطلبة وتخفيف الضغط على جامعات الرباط وفاس التاريخية، برزت الحاجة الماسة إلى إنشاء قطب جامعي كبير في جنوب البلاد لتلبية الطموحات التنموية والاجتماعية للمنطقة.

لم يكن اختيار اسم "القاضي عياض" لهذا الصرح العلمي اختياراً اعتباطياً، بل كان فعلاً ثقافياً وسياسياً بليغاً، يهدف إلى تكريم أحد أعظم أعلام مراكش والعالم الإسلامي، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي (ت. 544 هـ / 1149 م)، الذي جمع بين الفقه والحديث والتاريخ والأدب. وبهذا التكريم، تم ربط الجامعة الحديثة بإرث علمي عريق، وتأكيد على أن هذا الصرح الجديد هو امتداد طبيعي لمنارات العلم التاريخية التي اشتهرت بها مراكش عبر العصور، كجامع ابن يوسف، مما يمنح المؤسسة الفتية عمقاً تاريخياً وشرعية معرفية.

الفصل الأول: التأسيس والبواكير الأولى (1978-1990)

بموجب الظهير الشريف رقم 1.75.102 بتاريخ 25 أبريل 1975، تم وضع الإطار القانوني لإنشاء جامعات جديدة، وفي هذا السياق تأسست جامعة القاضي عياض رسمياً سنة 1978. انطلقت الجامعة بنواتين أساسيتين شكلتا حجر الزاوية في مسارها: كلية العلوم السملالية بمراكش (1978) وكلية الآداب والعلوم الإنسانية (1979). مثلت هاتان المؤسستان تحدياً مزدوجاً: بناء صرح أكاديمي حديث قادر على استيعاب المناهج العلمية المعاصرة، وفي نفس الوقت إحياء الدور التاريخي لمراكش كعاصمة للعلم والفكر في الغرب الإسلامي.

كانت هذه المرحلة مرحلة تأسيسية بامتياز، طبعتها تحديات بناء الهياكل الإدارية والأكاديمية، واستقطاب الأطر التدريسية من مختلف الجامعات المغربية والأجنبية، ووضع البرامج البيداغوجية الأولى التي ستستجيب لحاجيات جهة كانت متعطشة للمعرفة الجامعية. لقد تميزت هذه الفترة بروح من الحماس والتحدي، حيث عمل الأساتذة الأوائل في ظروف صعبة لوضع أسس تعليم جامعي حديث في قلب الجنوب المغربي.

صورة قديمة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش

الفصل الثاني: مرحلة التوسع والتشعّب: جامعة تلد جامعات (1990-2010)

توسع الجامعة لتشمل مدناً جديدة

شكلت فترة التسعينيات وبداية الألفية الثالثة منعطفاً حاسماً في تاريخ الجامعة، حيث تحولت إلى "جامعة أم" حقيقية. لم تعد مقتصرة على مراكش، بل امتد إشعاعها لتؤسس نواة جامعية في كل المدن الكبرى بالجنوب. ففي عام 1984، أنشأت كليتي العلوم والآداب بأكادير، اللتين شكلتا أساس جامعة ابن زهر التي تأسست رسمياً عام 1989. وبالمثل، أنشأت كليتي الآداب والعلوم والتقنيات ببني ملال في 1991 و 1994، واللتين أصبحتا نواة جامعة السلطان مولاي سليمان التي تأسست عام 2008.

إلى جانب هذا الدور التأسيسي، واصلت الجامعة توسعها المباشر بإنشاء المدرسة العليا للتكنولوجيا بآسفي (1992)، وكلية الطب والصيدلة بمراكش (1999)، والمدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بآسفي (2003)، والمدرسة العليا للتكنولوجيا بالصويرة (2005)، والمركز الجامعي بقلعة السراغنة (2007). هذا التوسع رافقه تنويع كبير في العرض البيداغوجي، وتزامنت هذه المرحلة مع الإصلاحات البيداغوجية الوطنية، وأبرزها اعتماد نظام الإجازة-الماستر-الدكتوراه (LMD)، الذي فرض على الجامعة إعادة هيكلة مسالكها التكوينية وتطوير بنياتها البحثية.

الفصل الثالث: كلية الآداب والعلوم الإنسانية - معقل الدراسات التاريخية ومنارة الجنوب

لا يمكن التأريخ لجامعة القاضي عياض دون التوقف عند الدور المحوري الذي لعبته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، وخاصة شعبة التاريخ التي شكلت على مدى عقود مركز إشعاع فكري ومعرفي، وأنجبت أجيالاً من الباحثين والمؤرخين الذين أثروا المكتبة التاريخية المغربية. لقد كانت هذه الشعبة بحق مدرسة تاريخية متميزة، أسس دعائمها جيل من الأساتذة الرواد الذين جمعوا بين الصرامة المنهجية والعمق المعرفي.

"مدرسة مراكش التاريخية": النشأة والخصائص

يمكن الحديث عن "مدرسة مراكش التاريخية" ليس كمؤسسة، بل كتيار فكري ومنهجي تشكّل تدريجياً داخل شعبة التاريخ. تميز هذا التيار بقطيعة إبستيمولوجية مع الكتابة التاريخية التقليدية، التي كانت تركز على التاريخ السياسي والسردي للأحداث. متأثرةً بالمدارس الحديثة، خاصة مدرسة الحوليات الفرنسية، تبنت مدرسة مراكش مقاربة جديدة ترتكز على:

  • التاريخ الاجتماعي والاقتصادي: دراسة البنيات العميقة للمجتمع، العلاقات بين الفئات، الذهنيات، والحياة اليومية.
  • التاريخ الهامشي: الاهتمام بالفئات والمناطق التي أغفلتها الكتابات الرسمية، كالقبائل، والزوايا، والمناطق الجبلية والصحراوية.
  • المقاربة متعددة التخصصات: الانفتاح على حقول معرفية مساعدة كالجغرافيا، الأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا لاستنطاق المصادر التاريخية.
  • نقد المصدر: التعامل مع الوثيقة التاريخية ليس كحقيقة مطلقة، بل كنص يحتاج إلى تفكيك ونقد لكشف مضمراته وخلفياته.

لقد ساهمت هذه الخصائص في إنتاج معرفة تاريخية جديدة، أكثر عمقاً وتركيباً، حول تاريخ المغرب، وجعلت من شعبة التاريخ بمراكش قبلة للباحثين الساعين إلى تجديد الدرس التاريخي.

الأجيال المتعاقبة وإشعاع المدرسة

يمكن تقسيم مسار شعبة التاريخ بمراكش إلى ثلاثة أجيال رئيسية ساهمت في ترسيخ مكانتها العلمية:

أعلام شعبة التاريخ بجامعة القاضي عياض

الجيل المؤسس: رواد التجديد المنهجي
الأستاذ الدكتور أحمد التوفيق

مؤرخ بارز، اشتهر بأبحاثه في التاريخ الاجتماعي للمغرب (مجتمع "إينولتان"). عُرف بمنهجيته التي تمزج بين الوثيقة الأرشيفية والرواية الشفوية.

الأستاذ الدكتور محمد القبلي

أحد أعمدة المدرسة التاريخية المغربية، متخصص في تاريخ المغرب الوسيط. تميز بالتحليل العميق للبنيات السياسية والاجتماعية.

الأستاذ الدكتور إبراهيم بوطالب

مؤرخ ومفكر، اهتم بتاريخ الأفكار والتيارات السياسية. يعتبر من الجيل المؤسس للدراسات التاريخية الحديثة بالجامعة.

الأستاذ الدكتور حميد التريكي

باحث متخصص في تاريخ مدينة مراكش وتراثها المعماري والمائي. مرجع أساسي في تاريخ الخطارات بمراكش.

الأستاذ الدكتور أحمد متفكر

مؤرخ بارز ومفكر في تاريخ المساجد والمآثر الدينية بالغرب الإسلامي، معروف بتحليله للعمارة الدينية ووظائفها الاجتماعية.

الأستاذ الدكتور جمال السلامي

مختص في التاريخ الإسلامي والمغربي، مع تركيز عملي على توثيق المصادر (مخطوطات، نقوش، وثائق إدارية)، وتحقيق النصوص.

الجيل الثاني: ترسيخ المناهج وتأطير البحث المعاصر

واصل الجيل الثاني من الباحثين، الذين تكونوا على أيدي المؤسسين، ترسيخ هذه المناهج مع الانفتاح على حقول بحثية جديدة. برزت أسماء وازنة طورت من الدرس التاريخي وأشرفت على أجيال جديدة من الباحثين، وأسست لمسالك الماستر والدكتوراه المتخصصة:

الأستاذة الدكتورة عائشة كنتوري

باحثة متميزة ورائدة في تاريخ الماء والمجتمع بالغرب الإسلامي، معروفة بأعمالها التأسيسية حول تدبير الموارد المائية في تاريخ المغرب.

الأستاذ الدكتور توفيق محمد لقبايبي

أحد أعمدة البحث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمغرب إبان المرحلة السعدية، ورائد في دراسة الحرف المائية.

الأستاذ الدكتور عبد الرزاق بن عمر أزريكم

خبير في تاريخ المغرب الوسيط ومنسق ماستر "الجبل بتاريخ المغرب"، معروف بانفتاحه على التاريخ المقارن، بما في ذلك تاريخ اليابان.

الأستاذ الدكتور هشام الركيك

مشرف على ماستر "الماء في تاريخ المغرب"، متخصص في التاريخ البيئي وتحليل استراتيجيات التكيف المجتمعي مع الأزمات المناخية.

بنيات البحث العلمي وتكوينات الدكتوراه

لم يقتصر إشعاع شعبة التاريخ على التكوين في سلك الإجازة، بل امتد ليشمل الدراسات العليا والبحث العلمي المعمق. فقد كانت الشعبة سباقة إلى تأسيس وحدات للتكوين والبحث (UFR) ثم مختبرات وفرق بحث معتمدة، التي أصبحت حاضنة لإنتاج الأطروحات الجامعية الرصينة. ومن أبرز هذه البنيات:

  • مختبر "الدراسات والأبحاث حول المصادر والمناهج في تاريخ المغرب": الذي ركز على تحقيق المخطوطات ونقد المصادر التاريخية.
  • مختبر "المجال والمجتمع في المغرب الوسيط": اهتم بدراسة التفاعلات بين الإنسان ومجاله، بما في ذلك الأنظمة المائية والعمران.
  • تكوينات الماستر والدكتوراه المتخصصة: كـ "ماستر الماء في تاريخ المغرب" و "ماستر الجبل في تاريخ المغرب"، التي شكلت مشاتل لتكوين باحثين من مستوى عالٍ، وتوجيه البحث نحو إشكاليات دقيقة ومبتكرة.

الفصل الرابع: الجامعة اليوم - تميز دولي وبصمة مؤثرة

مع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، دخلت جامعة القاضي عياض مرحلة جديدة من النضج تميزت بالانخراط القوي في التحول الرقمي والسعي نحو التميز على الصعيد الدولي. أصبحت الجامعة رائدة على المستوى الوطني والإفريقي في مجال البحث العلمي، خاصة في تخصصات الفيزياء الفلكية وعلوم الفلك، بفضل مرصد أوكايمدن، الذي يشارك في شبكات الرصد الدولية وساهم في اكتشافات فلكية هامة كنظام الكواكب الخارجية TRAPPIST-1، ومشروع التلسكوب MOSS. هذا التميز العلمي انعكس في ظهور الجامعة بانتظام في التصنيفات الدولية المرموقة كـ "شنغهاي" و "تايمز للتعليم العالي"، حيث صنفت مراراً كأفضل جامعة في المغرب والمغرب الكبير من حيث التأثير العلمي وجودة المنشورات.

إدارياً، واصلت الجامعة تحديث هياكلها بإنشاء "مدينة الابتكار" وحاضنات للمقاولات الناشئة، بهدف ربط البحث العلمي بعالم الاقتصاد والمقاولة، وتشجيع الطلبة على الابتكار. كما عززت من شراكاتها الدولية مع جامعات ومراكز بحثية مرموقة عبر العالم، مما فتح آفاقاً جديدة للطلبة والأساتذة الباحثين، وعزز من مكانتها كفاعل أساسي في الدبلوماسية العلمية للمملكة.

جامعة القاضي عياض بالأرقام (إحصائيات تقريبية 2024-2025)

+85,000

طالب

13

مؤسسة جامعية

+2,000

أستاذ باحث

68

مختبر بحث

خاتمة: إرث الماضي وآفاق المستقبل

إن مسيرة جامعة القاضي عياض، منذ تأسيسها إلى اليوم، هي قصة نجاح لمؤسسة علمية استطاعت في ظرف وجيز أن تتحول من نواة جامعية إقليمية إلى صرح علمي وطني ودولي رائد. لقد نجحت الجامعة في مهمتها الأساسية المتمثلة في دمقرطة التعليم العالي في جنوب المغرب، وساهمت بشكل فعال في التنمية الاجتماعية والاقتصادية لجهاتها. واليوم، وهي تواجه تحديات العصر الرقمي ومتطلبات اقتصاد المعرفة، تواصل جامعة القاضي عياض مسيرتها، مستلهمة من إرثها التاريخي، ومتطلعة بثقة نحو المستقبل لتظل، كما أريد لها أن تكون، منارة للعلم والمعرفة في مراكش الحاضرة وفي ربوع المغرب.

من رحم التقاليد العريقة لمدرسة مراكش، تولد اليوم أبحاث جديدة تستلهم صرامة الأسلاف المنهجية لتجيب عن أسئلة الحاضر الملحة، وتؤكد أن التاريخ ليس علماً للماضي فحسب، بل هو بوصلة للمستقبل.